جاءت الأحداث الدامية التي تشهدها مصر حاليا لتثبت بما لا يدع مجالا للشك أن هناك قوى محركة للمصادمات العنيفة التي تعتبر غريبة على الشارع المصري الذي طالما شهد واستوعب تظاهرات حاشدة وحراكا سياسيا ضاريا لكنه لم ينجرف في يوم من الأيام إلى هذه الهوة السحيقة من قبل.
وتشير كافة الدلائل إلى أن هناك فارقا لا تخطئه عين لابد من وضعه في الحسبان بين سير الأحداث قبل الجمعة 28 يناير وما بعدها.
فكما شهدنا جميعا كانت مطالب المتظاهرين تنحصر في تلك التي عبر عنها شباب حركة 6 أبريل والتي تتلخص في عدة مطالب يراها الجميع مشروعة ومنطقية من مكافحة الفقر والبطالة والقضاء على الفساد.
أي أنها كانت عبارة عن خارطة طريق شبابية ولم تكن لها أي أجندة سياسية ولم تقترب حتى من التفكير في رحيل الرئيس مبارك أو حل البرلمان أو تسريح الحكومة أو أي من باقي هذه المطالب التي تلقفتها قوى سياسية أخرى راحت تتفاوض مع النظام للحصول على مكتسبات لم تكن أبدا في الحسبان.
وقد ساهمت حالة السكوت التي التزم بها النظام حيال هذه التحركات الشعبية في ارتفاع نبرة المعارضة ورفع سقف
المطالب للدرجة التي دفعت الرئيس حسني مبارك لتقديم تضحيات لم يكن يتصورها أحد.
بداية من حل حكومة نظيف وتعيين نائب رئيس وقبول الطعون المقدمة في البرلمان المشئوم وتكليف نائبه بالتفاوض مع ممثلي الأحزاب والقوى الوطنية للتعرف على مطالبهم ومحاولة التوصل إلى تقريب وجهات النظر.
إلا أن حالة فارق التوقيت هذه بين مطالب الشارع الذي بدأت تتحرك فيه قوى أخرى طفت على السطح كبديل لشباب 6 ابريل الذين كما يقال أشعلوها ثم عادوا لمنازلهم ساهمت في مزيد من التنازلات التي قدمها الرئيس المصري في خطابه التاريخي.
حيث جاءت كلمات الخطاب الأخير الذي توجه به الرئيس المصري محمد حسني مبارك إلى شعبه ليل الثلاثاء 1 فبراير 2011 كمحاولة أخيرة لإنقاذ البلاد من الانصهار في أتون حرب مجهولة العواقب، حيث اعتبره المحللون بمثابة تصحيح مسار يحمل كثيرا من التضحيات لعل على رأسها إعلانه تخليه عن الترشح لفترة رئاسة سادسة.
وحاول الرئيس المصري استعادة خيوط دعائم الحكم في أيديه من جديد عندما حرص على تذكير الشعب بما قدمه لمصر من بطولات في حرب الكرامة وأنه كان دائما ينحاز إلى فئة محدودي الدخل الذين يقاسون مرارة وشظف العيش.
وقال في كلمة ألقاها في وقت متأخر انه سيبقى في الحكم الى أن تنتهي ولايته الحالية حتى أغسطس المقبل، وفي الوقت نفسه سيطلب تعديلات دستورية حتى تكون الانتخابات الرئاسية مفتوحة ويكون عدد الولايات الرئاسية التي يستطيع الرئيس توليها محددة.
ورغم الوعود البراقة التي حملتها كلمات مبارك والتي قد تؤدي في الأخير إلى حل البرلمان وتقييد مدة الحكم للرئيس التالي وتعيينه نائب لرئيس الجمهورية مشهود له بالكفاءة والنزاهة، تباينت ردود الأفعال حول هذه الوعود التي رآها البعض براقة فيما اعتبرها آخرون التفافا على المطلب الأول للمتظاهرين ومحاولة لكسب الوقت.
وميدانيا وقع انقسام خطير في الشارع المصري فسرعان ما احتشدت جحافل المؤيدين الذين على الأرجح ينتمون للحزب الوطني الذي اعتلى الرئيس سدته لأكثر من ثلاثين عاما جابوا شوارع العاصمة حتى قبل أن ينتهي خطاب مبارك ليشكلوا رأيا عاما مناهضا للمطالبين بخروج الرئيس الفوري من الحكم.
وبين الملايين التي خرجت لتطالب برحيل الرئيس والآلاف المعدودة التي تحاول إقناعهم بفوائد بقاء الرئيس حتى لفترة انتقالية قادمة يبقى مصير البلاد مجهولا خصوصا في ظل تلاحق التغييرات التي تلهث الأنفاس للحاق بها.
في هذه الأثناء تفجرت قنبلة خطيرة كشفت عنها وثائق سرية سربها موقع "ويكيليكس" تؤكد أن لقاءً سرياً جمع بين الشيخ حمد بن جاسم وزير الخارجية القطرى ومسئول إسرائيلى نافذ فى السلطة، وكشف فيه الشيخ جاسم للمسئول الإسرائيلى أن الدوحة تتبنى خطة لضرب استقرار مصر بعنف، وأن "قناة الجزيرة" ستلعب الدور المحورى لتنفيذ هذه الخطة، عن طريق اللعب بمشاعر المصريين لإحداث هذه الفوضى.
وعلى الرغم من أن الموقع التزم بسريه الوثيقتين بعد أن حصل على الثمن من القطريين، إلا أنه تم تسريبها إلى عدد من وسائل الإعلام، أهمها جريدة الجارديان والتى نشرت نصهما على موقعها وشملت ضمن محتواها تحليل السفارة الأمريكية لموقع قناة الجزيرة على خريطة التحرك السياسى لقطر، ودورها فى رسم ملامح سياسة قطر الخارجية.
وأشارت الوثيقتان إلى أن النظام القطرى يستخدم دائماً قناة الجزيرة فى تصفيه حساباته مع خصومه وأنه نجح أكثر من مرة فى إشعال الفتن فى عدد كبير من العواصم العربية عندما توترت العلاقات مع الدوحة وأن الجزيرة هى أحد أهم القنوات الإخبارية فى المنطقة ونجحت فى جذب المشاهد العربى منذ تأسيسها.
ولم يكن بعيدا عن كل هذا الدور الأمريكي والأوروبي وحتى الإسرائيلي والتي جاءت لتبث رسائل ضمنية فحواها مطالبة النظام بالرحيل الفوري وليس الانتظار لحين انتهاء الفترة الرئاسية الحالية.
والشاهد أيضا أن ميليشيات مناظرة لم تقف بمنأى عن المشهد المؤسف حيث تحركت جحافل من البلطجية ورعاة الإبل
تمتطي الأحصنة وتتسلح بالسنج والمطاوي وقنابل المولوتوف فيما بدا أنها قررت حسم المعركة لصالح بقاء الرئيس لكن على طريقتها الخاصة مما زاد الطين بلة.
وبين كل هذه السيناريوهات وتلك يبقى التساؤل المشروع من المسئول عن مؤامرة حرق مصر على النحو الذي شهدناه وشهده معنا العالم أمس من إطلاق نيران حية أدت لسقوط أكثر من ألفي ضحية ما بين قتيل وجريح، حتى بات الاحتمال المرعب هو أي مستقبل مجهول ينتظر مصر غدا خصوصا مع ظهور دعوات لتوجيه التظاهر إلى قصر العروبة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق