أنصاف الانتصارات.. أنصاف هزائم
لا بدّ من الحذر من أنصاف الانتصارات، لأنها قد تكون وجهاً آخر لأنصاف الهزائم؛ وأنصاف الهزائم قد تكون مدخلاً لإضاعة ما تحقق من مكاسب أو انتصارات جزئية.
كان شعار "الشعب يريد إسقاط النظام"، وشعار "الشعب يريد تطهير البلاد" تعبيرين عن حالة نضج الجماهير العربية التي ترفض أن تتقزم عملية الإصلاح بمجرد تغيير رأس النظام، فرأس النظام عادة ما يكون تعبيراً عن منظومة من الفساد والظلم والاستبداد تحيط نفسها بمجموعة من المنتفعين والفاسدين والمنافقين، وبترسانة من الأنظمة والقوانين التي تضمن استمرارها وبقاءها.
وبذهاب رأس النظام، واستمرار إمساك حاشيته بمفاصل القيادة وعملية صناعة القرار.. لا يكون قد حدث شيء جوهري، سوى أن النظام المستبد الفاسد قد يعيد إنتاج نفسه من جديد، بعد أن يكون قد غيَّر بعض ديكوراته أو زيه وربما جلده، دون أن يغيِّر عقليته.
ولذلك، إذا كان هذا هو الحال، فسيعمد من تبقى من رموز النظام إلى استيعاب مؤقت للثورة، وبتحقيق جزئي للمطالب الشعبية، وتبريد الأوضاع، وضمان عودة الجماهير إلى بيوتها. وما دام النظام نفسه ممسكاً بزمام الأمور فسيغريه ذلك باستمرار بقائه، والعودة التدريجية لسلوكه القديم، بعد أن يكون قد أفقد الثورة وهجها ومعناها، وحرف مسارها، وامتص ارتداداتها.
إذن، لا بدّ للجماهير أن تستكمل مهمتها، وأن تطمئن إلى أن قيادة التغيير وبرنامجه ووسائله وأدواته متماهية معها ومع مطالبها، وتعبر تماماً عن إرادتها؛ ليس فقط عند إجراء الانتخابات، وإنما في إدارة المرحلة الانتقالية التي يجب أن يقودها مخلصون أكفاء يؤسسون لحكمٍ نهضوي عادل، ويضمن دستوراً سليماً ومجلس شعب/نواب منتخباً بكل حرية وشفافية، وحكومة شرعية، وآليات حكم فاعل ونظيف.
إن استكمال المهمة والتأسيس السليم للمرحلة الجديدة أصلٌ في عملية التغيير، ويقطع الطريق على مشاريع الإفشال والإسقاط والامتصاص والانحراف التي تواجه الثورات عادة. وفي منظومات القيادة السياسية المستبدة.. لا يكون هناك فرعون فقط، بل هناك من يلعب أدوار هامان وقارون و"السحرة" وسدنة النظام، وجنوده وأعوانه؛ فحذار أن يفسح المجال لهامان حتى يلعب دور موسى وهارون؟!!.
وباختصار فلا يمكن لرموز الفساد أو منافقيه أن يقودوا عملية إصلاحية؛ وإلا فسيظل الأمر موسداً إلى غير أهله. إن البرنامج الإصلاحي يجب أن يقوده مصلحون. ولذلك لا بدّ في المرحلة الانتقالية من قيادة صالحة، ورؤية إصلاحية، وبرنامج إصلاحي، وأدوات تنفيذ صالحة.
وبالطبع فنحن عندما نتحدث عن مجتمعاتنا فنحن نتحدث عن مجتمعات عربية إسلامية، وليس كل من عمل في النظام ومناصبه هو فاسد وسيئ بالضرورة. وقد يكون هناك عديدون ممن يملكون المهارة والكفاءة والإخلاص، أرادوا خدمة أوطانهم من خلال مواقعهم. وبالتالي فإن من تقصد استبعادهم هم قادة النظام وسدنته ومنظريه وأركانه، ممن ثبت ظلمهم وفسادهم، وممن طغوا وبغوا وأخذوا فرصتهم كاملة، ولم يعد هناك خير يرجى منهم.
استكمال المهمة
أراد كاتب هذه السطور من خلال عنوان المقال "الملائكة لم تضع أسلحتها" التذكير بأهمية استكمال المهمة، وعدم التنفيذ الجزئي لها. فعندما عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته من غزوة الخندق (الأحزاب)، وبعد أن وفقهم الله في رد تحالف المشركين عن المدينة؛ نزل جبريل عليه السلام -بينما كان المسلمون يتجهزون لصلاة العصر- ليقول للرسول عليه الصلاة والسلام "أوَضعتم أسلحتكم؟، فإن الملائكة لم تضع أسلحتها"؛ وأخبره بضرورة استكمال المهمة بالهجوم على بني قريظة الذين نكثوا عهدهم مع المسلمين، وأعدوا في أثناء الغزوة لطعنهم في ظهورهم. فنادى رسول الله "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يصليّن العصر إلا في بني قريظة"؛ فنهض المؤمنون من فورهم لاستكمال مهمتهم، حتى تحقق لهم النصر.
والمشهد في البلاد العربية ليس بالضرورة مشهد معركة أو قتال بالسلاح، ولكن لا بدّ للمهام أن تكتمل لتؤسس لتغيير حقيقي جديد مضمون بإذن الله، وغير قابل للعبث أو الإفشال. ولعل البعض يذكر قول الشاعر أبي أذينة:
لا تقطعن ذنب الأفعى وتتركها *** إن كنت شهماً فأتبع رأسها الذنبا
وقول المتنبي:
ولم أرَ في عيوب الناس عيباً *** كنقص القادرين على التمام
لا لكرزايات جدد
لا ينبغي لقوى التغيير والإصلاح أن تتواضع عندما تتاح لها فرصة الإشراف على عملية التغيير وتنفيذها. ليس هذا موضع الزهد في المناصب، بل هو موضع ملء الثغرات بصنف "القوي الأمين"...، وليس هذا موضع ترك "مباهج الدنيا"، لأن الذي سيأتي لملء المواقع (إن تركها المخلصون) هم أولئك الذين أفسدوا علينا دنيانا وربما آخرتنا طوال العقود الماضية.
لقد زهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل شيء من أمور الحياة، حتى إنه كان يضع الحجر والحجرين على بطنه من شدة الجوع، لكنه أنشأ دولة للمسلمين في المدينة وقادها، ولم يسمح لغير المخلصين الأكفاء بتولي المناصب العامة، وأسس لنظام قاد الحضارة الإنسانية قرونا.
وعلى هذا، فينبغي أن يُقطع الطريق على أي "كرزاي" جديد، وعلى أي قادم على ظهر دبابة شرقية أو غربية، وعلى أي انتهازي راكب لموجات التغيير.
قيادة التغيير
وقد يرى البعض أن من الحكمة ألا تظهر بعض القوى ذات الشعبية الواسعة كامل قوتها في قيادة المجتمع وفي عملية التغيير، حتى لا يتم استفزاز قوى متربصة داخلية (كالجيش مثلاً)، أو قوى خارجية تخشى من انفلات الأمور ضدّ مصالحها.
وقد يكون هذا سليماً من الناحية النظرية المجتزأة. إذ إن القنوع بتحقيق مكاسب مرحلية محدودة مع تواجد غير فاعل في صناعة القرار في مجالس الشعب أو الرئاسة أو الحكومة؛ قد يبقي قوى الإصلاح والتغيير في الهامش، في الوقت الذي يتسلق فيه الانتهازيون والمتربصون؛ ليعيدوا إنتاج أنظمة الظلم والفساد والتبعية نفسها.
ومن الخطأ إثارة ذعر الآخرين بخطابات نارية، أو بعمليات استئثار بالسلطة، أو القضاء على الخصوم؛ وإنما المطلوب تقديم نموذج حضاري معتدل، يستوعب الآخرين، ويستوعب التعقيدات والاختلافات الطائفية والعشائرية والطبقية، كما يستوعب المصالح العليا للدولة، ويحترم الاختلاف، والتداول السلمي للسلطة، ويراعي التدرج، لكنه يظل -إن استطاع وإن استحق- أداة التطور والتغيير.
حزب العدالة والتنمية التركي -على الرغم من خلفيته الإسلامية- لم يزهد بعد سنة فقط من إنشائه في أن يفوز بأغلبية تقارب الثلثين في البرلمان، وأن يتابع برنامجاً طموحاً يصل فيه إلى رئاسة الدولة، ويقصقص نفوذ الجيش ويفتح المجال للحريات، وينهض بدولة مؤسسات مدنية تحترم تراثها ودينها وتتبنى قضايا أمتها.
ولذلك، فربما كان على قوى التغيير المخلصة -في مصر وغيرها- من القوى الإسلامية والوطنية، ألا تتردد في التعبير عن الإرادة الشعبية الحقيقية، وخصوصاً في مجلس الشعب، وألا يحرموا أنفسهم من الأغلبية، إن استطاعوا الوصول إليها واستحقوها، وأن يضمنوا أن تتم عملية صناعة القرار بشكل يخدم مصالح الأمة وأولوياتها.
ولهم بعد أن يثبتوا وجودهم أن يرتبوا تحالفاتهم وتشكيل حكوماتهم بما يبعث الطمأنينة في نفوس الجماهير وفئات المجتمع وطوائفه وطبقاته، وبما لا يستفز ولا يستعدي الآخرين، وبما يراعي التدرج، ليكون إنجازهم وعطاؤهم هو الحكم في تحقيق مزيد من الثقة الجماهيرية، وفي الاستمرار في العملية الإصلاحية.
نعم للإبداع... لا للفوضى الخلاقة
هناك تيار أميركي يدعو إلى إحداث فوضى في المنطقة العربية، تؤدي إلى تفتيتها وتمزيقها جغرافياً وطائفياً وعنصرياً. وهي تؤيد إسقاط عدد من الأنظمة، مع السعي المباشر لتغذية عناصر الخلاف بين أبناء الشعب الواحد والأمة الواحدة، وتسهيل وصول العامة إلى السلاح، وتغذية التفجيرات والانتقامات الطائفية والعنصرية والعشائرية، بما يؤدي إلى مزيد من إضعاف وتقكك وتخلف المنطقة.
وهو ما يفتح المجال لإنشاء كيانات أكثر هزالاً وأكثر تبعية كما يفتح المجال لتوسع النفوذ الصهيوني في المنطقة، وإلى مزيد من التوغّل والتغوّل الأجنبي على الأمة ومقدراتها. وكانت قد نشرت قبل بضع سنوات مخططات لتفتيت المشرق العربي ومصر والسودان إلى أكثر من ثلاثين كياناً عنصرياً وطائفياً... وربما كان ما حدث في العراق وجنوب السودان... هو بعض آثار سعي هذا التيار لتحقيق مثل هذه الأهداف.
أحد الأهداف التي يرجو تحقيقها مروجو هذه الفكرة هو إحباط أي مساعٍ حقيقية للإصلاح والتغيير، وقطع الطريق على المشروع النهضوي في المنطقة، والادعاء بأن الشعوب في المنطقة العربية لا تستحق الديمقراطية، ولا تستحق أن تحكم نفسها بنفسها، وأن واحة الديمقراطية الحقيقية في المنطقة هي الكيان الصهيوني الإسرائيلي.
إن على الجماهير والتيارات السياسية المخلصة، التي ضحت بالغالي والنفيس لنيل حريتها واستقلالها واستعادة كرامتها، أن تتنبه لأي مطبات من هذا القبيل، وأن تقطع الطريق على عناصر الفوضى ودعاة الفتنة الطائفية والعنصرية؛ وألا تسمح لعملية التغيير بأن تكون أداة للتدهور والتراجع، وأن تسارع لوضع الآليات التي تضمن الوحدة الوطنية وتمنع التدخل والعبث الخارجي، وأن تضع الضمانات لأن تكون عملية التغيير هي عملية إصلاح ونهضة وارتقاء.
وفي مثل هذه الظروف قد يحسن أن تتشكل ائتلافات واسعة من الاتجاهات الإسلامية والوطنية المخلصة، حتى تضمن اجتياز المرحلة بسلام، وحتى تسد على المتربصين أي منافذ للإفساد والاختراق، وحتى تضمن تشكيل نظام سياسي صلب يعيد للإنسان كرامته وقدرته على الإبداع، ويعيد للأرض عزتها ومنعتها، ويحرر مقدساتها ويحميها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق